فصل: الفصل الْأَوَّلُ: فِي ذَمِّ الْقُرْآنِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَنَزَاهَتِهِ فِيهِ عَنِ السَّبِّ وَالشَّتْمِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(السَّادِسُ) الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ أَسْبَابِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ أَشْهُرِ الْهُدْنَةِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُ وَحَرُمَ فِيهَا، وَهِيَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَالْحَصْرُ وَالْقُعُودُ لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْمَرَاصِدِ لِمُرَاقَبَتِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ التَّجْوَالِ وَالتَّغَلُّبِ فِي الْبِلَادِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةِ اسْتِعْمَالِ مَا يَتَجَدَّدُ بَيْنَ الْبَشَرِ مِنْ وَسَائِلِ الْقِتَالِ الْمُوَافِقَةِ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ الْعَادِلَةِ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَ الْعَدُوُّ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لَهَا قَابَلْنَاهُ لِعُمُومِ قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ} (2: 194).
(السَّابِعُ) تَخْلِيَةُ سَبِيلِ مَنْ يَتُوبُونَ مِنَ الشِّرْكِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، لِأَنَّهُمْ بِهَذَا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ قَبِلَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْتَزَمَهُمَا فَلابد أَنْ يَلْتَزِمَ غَيْرَهُمَا. وَهَذَا نَصُّ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ.
(الثَّامِنُ) إِيجَابُ إِجَارَةِ مَنْ يَسْتَجِيرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ، وَفِي حُكْمِهِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ وَنَائِبُهُ وَالْقَائِدُ الْعَامُّ فِي حَالِ الْحَرْبِ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ وَيَقِفَ عَلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِبْلَاغِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي يَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ.
(التَّاسِعُ) تَعْلِيلُ نَبْذِ عَهْدِ الْمُشْرِكِينَ السَّابِقِ وَعَدَمِ اسْتِئْنَافِهِ مَعَهُمْ بِالْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ:
(أ) أَنَّهُمْ نَقَضُوا عَهْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْغَدْرِ فَلَمْ يُخْبِرُوا الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ لِيَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ.
(ب) أَنَّ مِنْ دَأْبِهِمْ وَشَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِرُجْحَانِ قُوَّتِهِمْ لَا يَرْقُبُونَ فِيهِمْ عَهْدًا وَلَا ذِمَّةً وَلَا قَرَابَةً، بَلْ يَفْتِكُونَ بِهِمْ بِدُونِ رَحْمَةٍ.
(ج) أَنَّهُمْ يُنَافِقُونَ وَيَكْذِبُونَ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ الضَّعْفِ فَيُرْضُونَهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَيَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَهُمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَكْثَرُهُمْ أَيِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ أَيْ خَارِجُونَ عَنْ قُيُودِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ.
(د) أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيُعَادُونَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ قَلِيلَةٍ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا، وَيَخَافُونَ أَنْ تُسْلَبَ مِنْهُمْ بِالْتِزَامِ شَرِيعَتِهِ الَّتِي تُحَرِّمُ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَالْقِمَارِ وَالْغَصْبِ وَالْغَزْوِ لِأَجْلِ الْكَسْبِ، وَكَانُوا يَسْتَبِيحُونَ كُلَّ ذَلِكَ.
(هـ) أَنَّهُمْ- عَلَى كَوْنِهِمْ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً فِي حَالِ الْقُوَّةِ وَلَا فِي حَالِ الضَّعْفِ- هُمُ الْمُعْتَدُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَظَلُّوا مَعَهُمْ كَذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ.
(و) أَنَّهُمْ نَكَثُوا عُهُودَهُمُ السَّابِقَةَ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهَا فَلَا ثِقَةَ بِهَا فَتُرَاعَى.
(ز) أَنَّهُمْ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ وَطَنِهِ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ اضْطَرُّوهُ إِلَى الْخُرُوجِ هُوَ وَسَائِرُ مَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَوَاطَئُوا عَلَى قَتْلِهِ.
(ح) أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ بَدَءُوا الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَبَقِيَتِ الْحَرْبُ مُسْتَمِرَّةً، فَلَمَّا أَنْهَتْ مُعَاهَدَةُ الْحُدَيْبِيَةِ حَالَةَ الْقِتَالِ أَعَادُوهَا بِغَدْرِهِمْ فِيهَا وَنَقْضِهِمْ لَهَا، وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّمَانِيَةُ صَرِيحَةٌ فِي الْآيَاتِ (7- 10).
(الْحُكْمُ الْعَاشِرُ) وُجُوبُ قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَافَّةً إِلَّا أَنْ يُسْلِمُوا، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (9: 36) وَجْهُهُ مَا عُلِمَ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ فِي قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ عَدَمُ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَعَدَمُ إِقْرَارِهِمْ عَلَى السُّكْنَى وَالْمُجَاوَرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا أَمَانَ لَهُمْ وَلَا عُهُودَ فَيُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ الْمُؤْمِنُونَ مَعَهُمْ بِسَلَامٍ.
(الْحُكْمُ 11) تَحْرِيمُ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ مِنَ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ كَغَيْرِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكَوْنُهَا مِنَ الظُّلْمِ فِي الْآيَةِ (23).
(الْحُكْمُ 12) حُكْمُ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِشَرْطِهِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فِي الْآيَةِ (29).
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْقُ فِي الْقِتَالِ بَيْنَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْوَثَنِيِّينَ. وَمِنْهَا أَنَّ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قِتَالِهِمْ وَقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِنَّمَا هُوَ فِي بَيَانِ غَايَتِهِ لَا فِي بِدَايَتِهِ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ التَّشْرِيعِ فِي الْقِتَالِ آيَاتُ سُورَةِ الْحَجِّ (22: 39- 41) ثُمَّ آيَاتُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا (2: 190) (رَاجِعْ آخِرَ ص247 وَمَا بَعْدَهَا وَص 255 ج10) وَيَلِيهَا آيَاتُ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، فَسُورَةُ مُحَمَّدٍ، فَهَذِهِ السُّورَةُ.
(الْحُكْمُ 13) وَصْفُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَيَّنَ حُكْمَ قِتَالِهِمْ هُنَا بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ سَلْبِيَّةٍ هِيَ عِلَّةُ عَدَاوَتِهِمْ لِلْإِسْلَامِ، وَوُجُوبُ خُضُوعِهِمْ لِحُكْمِهِ لِيَأْمَنَ أَهْلُهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَحُرِّيَّةُ دِينِهِمْ مَعَهُمْ (فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ آيَةِ الْجِزْيَةِ فِي ص248 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ).
فصل: فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ لُغَةً وَشَرْعًا وَتَارِيخِهَا وَشُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا وَسِيرَةِ الصَّحَابَةِ فِيهَا (ص256- 269 ج10 ط الْهَيْئَةِ).
(اسْتِطْرَادٌ) فِي حَقِيقَةِ مَعْنَى الْجِهَادِ وَالْحَرْبِ وَالْغَزْوِ وَإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ فِيهِ. (ص269- 274 ج10 ط الْهَيْئَةِ).
فصل: فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْعَدْلِ. وَدَارِ الْحَرْبِ وَالْبَغْيِ، وَحُقُوقِ الْأَدْيَانِ وَالْأَقْوَامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ (ص274- 281 ج10 ط الْهَيْئَةِ).
(الْحُكْمُ 14) إِبْطَالُ النَّسِيءِ فِي الْأَشْهُرِ لِأَجْلِ الْقِتَالِ، وَكَوْنِهِ تَشْرِيعًا جَاهِلِيًّا، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (37).
(الْحُكْمُ 15) النَّفِيرُ الْعَامُّ، وَهُوَ مَا يَكُونُ الْقِتَالُ بِهِ وَاجِبًا بِشَرْطِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ كَمَا فُصِّلَ فِي الْآيَاتِ (38 و39 و41) وَأَمَّا النَّفِيرُ الْخَاصُّ فَهُوَ فِي الْآيَةِ (122).
(الْحُكْمُ 16) الِاسْتِئْذَانُ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ، وَمُنَافَيَاتِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ (44 و45) وَمَا قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَتِمَّةُ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ (86- 93).
(الْحُكْمُ الْأَوَّلُ) وُجُوبُ مُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَهُمُ الْخَاضِعُونَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْآيَةِ (73).
(الْحُكْمُ 18) الْأَعْذَارُ الْمُبِيحَةُ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ فِي قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} 9: 91 إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (93).
(الْحُكْمُ 19) وُجُوبُ بَذْلِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي الْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَهِيَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ بِاشْتِرَاءِ اللهِ إِيَّاهُمَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (111) وَتَقَدَّمَ تَحْرِيمُ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
(الْحُكْمُ 20) قِتَالُ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ (123).

.الفصل الثَّالِثُ: فِي الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ:

وَهِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَصْلًا:
(1) جَوَازُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُهُودِ وَنَبْذُهَا لِلْمُعَاهِدِينَ لِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى بَقَائِهَا، وَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ الْأَوْلَى وَالثَّانِيَةِ مِنَ السُّورَةِ.
(2) عَقْدُ الْمُعَاهَدَاتِ مَعَ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ مِنْ حُقُوقِ الْأُمَّةِ لَهَا غُنْمُهَا وَعَلَيْهَا غُرْمُهَا، وَإِنَّمَا يَعْقِدُهَا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الْمُمَثِّلُ لِوَحْدَةِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ مَنْطُوقُ إِسْنَادِهَا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (9: 1) مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الَّذِي تَوَلَّى الْعَقْدَ وَكُتِبَ بِاسْمِهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
(3) نَبْذُ الْمُعَاهَدَاتِ يَجِبُ أَنْ يُذَاعَ وَيُنْشَرَ بِحَيْثُ يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْعَمَلِ بِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ بِالْأَذَانِ بِهِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَالْإِذَاعَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَأَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي حَضَارَتِهِمْ وَبَدَاوَتِهِمْ.
(4) وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالْمُعَاهَدَةِ مَا دَامَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مِنَ الْأَعْدَاءِ يَفِي بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْئًا، كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ (4 و7 و12 و13) إِكْمَالًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
(5) الْمُعَاهَدَةُ الْمَوْقُوتَةُ تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهَا بِنَصِّ قوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (9: 4) وَقَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (9: 7).
(6) أَنَّ الْقَبَائِلَ وَالشُّعُوبَ الَّتِي لَيْسَ لَهَا دِينٌ وَلَا شَرْعٌ يُحَرِّمُ عَلَيْهَا نَقْضَ الْعُهُودِ وَجُرِّبَ عَلَيْهَا نَكْثُهَا لِلْإِيمَانِ لَا يَجِبُ الْتِزَامُ مُعَاهَدَاتِهَا السَّابِقَةِ، وَلَا تَجْدِيدُ مَا انْتَهَتْ مُدَّتُهُ مِنْهَا كَمَا تَرَاهُ مُفَصَّلًا فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثَ عَشْرَةَ الْأَوْلَى مِنَ السُّورَةِ، وَدُوَلُ الْإِفْرِنْجِ تَعْمَلُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَلَا تَعْقِدُ الْمُعَاهَدَاتِ إِلَّا مَعَ الدُّوَلِ الْمُنَظَّمَةِ الَّتِي تَلْتَزِمُ الشَّرَائِعَ وَالْقَوَانِينَ الدَّوْلِيَّةَ.
(7) الْهُدْنَةُ بَيْنَ الْمُحَارِبِينَ مَشْرُوعَةٌ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبْدَءُوا بِهَا إِذَا اقْتَضَتْ ذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ، وَمِنْهَا الرَّحْمَةُ بِالْمُشْرِكِينَ فِيمَا لَا يَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
(8) تَأْمِينُ الْحَرْبِيِّ بِالْإِذْنِ لَهُ بِدُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ جَائِزٌ لِلْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا اسْتَأْمَنَ لِأَجْلِ سَمَاعِ كَلَامِ اللهِ أَوِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَجَبَتْ إِجَارَتُهُ ثُمَّ إِبْلَاغُهُ مَأْمَنَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ.
(9) انْتِهَاءُ قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَنُوطٌ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِفْتَاحُهُ التَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَأَهَمُّهَا رُكْنَا الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ.
(10) انْتِهَاءُ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ يُنَاطُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ مَعَ الْخُضُوعِ لِأَحْكَامِ شَرْعِنَا، كَمَا تَرَى فِي آيَةِ الْجِزْيَةِ (29) وَفِي تَفْسِيرِهَا بَيَانُ حُكْمِ سَائِرِ الْمِلَلِ.
(11) النَّفِيرُ الْعَامُّ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْجِهَادُ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ فِي الْآيَةِ (41) وَتَرَى فِي تَفْسِيرِهَا مَا تَكُونُ بِهِ فَرْضِيَّتُهُ، وَمَا يَكُونُ بِهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ.
(12) امْتِنَاعُ نَفْرِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ لِلْجِهَادِ فِي غَيْرِ حَالِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فِي الْآيَةِ (122).
(13) الْعَجْزُ عَنِ الْقِتَالِ أَوْ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ وَتَجِدُ بَيَانَ أَنْوَاعِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ (91- 93) وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ.

.الباب الْخَامِسُ: فِي شُئُونِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَحُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ وَسِيَاسَتِهِ فِيهِمْ:

وَفِيهِ فُصُولٌ:

.الفصل الْأَوَّلُ: فِي ذَمِّ الْقُرْآنِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَنَزَاهَتِهِ فِيهِ عَنِ السَّبِّ وَالشَّتْمِ:

تَنْبِيهٌ وَتَمْهِيدٌ:
الذَّمُّ: الْوَصْفُ بِالْقَبِيحِ، وَالسَّبُّ وَالشَّتْمُ: مَا يُقْصَدُ بِهِ التَّعْيِيرُ وَالتَّشَفِّي مِنَ الذَّمِّ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا وَاقِعًا أَوْ إِفْكًا مُفْتَرًى. وَالْقُرْآنُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (6: 108) فَنُهِيَ عَنْ سَبِّ آلِهَةِ الْكُفَّارِ وَمَعْبُودَاتِهِمْ وَمِنْهَا الْأَصْنَامُ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْمُتَسَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَهَاتَرَانِ وَيَتَكَاذَبَانِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
فَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَمِّ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بَيَانٌ لِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ وَقُبْحِ أَعْمَالِهِمْ، وَمَا يَعْقُبُهَا مِنَ الْفَسَادِ وَالضَّرَرِ بِهِمْ وَسُخْطِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِعِقَابِهِ، وَبُعْدِهِمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَثَوَابِهِ؛ بِقَصْدِ الْإِنْذَارِ وَالْوَعْظِ، لِأَجْلِ التَّنْفِيرِ وَالزَّجْرِ، وَلِذَلِكَ تَرَاهَا مُوَجَّهَةً إِلَيْهِمْ بِوَصْفِهِمْ أَوْ إِلَى وَصْفِهِمُ الْعَامِّ: الْمُشْرِكِينَ، الْكَافِرِينَ، الْمُنَافِقِينَ، الْفَاسِقِينَ، الظَّالِمِينَ، الْمُجْرِمِينَ، الْمُفْسِدِينَ، أَوِ الْخَاصِّ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ كَبَعْضِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَا كُلِّهِمْ دُونَ الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنِينَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَلْقَابِهِمْ، مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شِدَّةِ كُفْرِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي كَانَ شَرَّهُمْ وَأَجْرَأَهُمْ عَلَى الضَّرَرِ، فَقَدْ كَانَ ضَرَرُهُ فِي الْمَدِينَةِ أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ فِي مَكَّةَ (كَأَبِي جَهْلٍ).
وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هِجَاءِ الْعَرَبِ وَسِبَابِهِمُ الْبَذِيءِ وَقَذَعِهِمُ الْفَاحِشِ أَدْرَكَ نَزَاهَةَ الْقُرْآنِ، وَعُلُوَّهُ عَنْ مِثْلِ بَذَاءَتِهِمْ فِي الْكَلَامِ.
يُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فِي ذَمِّ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَا نَزَلَ فِي ذَمِّ أَبِي لَهَبٍ وَامْرَأَتِهِ فِي سُورَةٍ وَجِيزَةٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ آزَرَ وَالِاسْتِطْرَادِ إِلَى آبَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُولِي قُرْبَاهُمْ وَمَا صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ فِي أَبَوَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَمَّيْهِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي لَهَبٍ، لِإِثْبَاتِ قَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ دِينِ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَالْأَدْيَانِ الْوَثَنِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَدَارَ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَالْفَوْزِ بِنَعِيمِهَا إِنَّمَا هُوَ الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تَتَزَكَّى بِهَا الْأَنْفُسُ وَتَكُونُ بِصِفَاتِهَا الْعَالِيَةِ أَهْلًا لِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى وَمَرْضَاتِهِ.
وَأَنَّ الْأَدْيَانَ الْوَثَنِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ السَّعَادَةَ وَالنَّجَاةَ وَالْفَوْزَ إِنَّمَا تَكُونُ بِوَسَاطَةِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تُوصَفُ بِالْوِلَايَةِ وَالْقَدَاسَةِ أَوِ النُّبُوَّةِ، وَيُدْعَى لَهَا التَّأْثِيرُ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَكَوْنِهَا تُحَابِي بِشَفَاعَتِهَا وَوَسَاطَتِهَا أُولِي الْقَرَابَةِ مِنْهَا وَالْمُتَقَرِّبِينَ إِلَيْهَا بِالْمَدْحِ لَهَا وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهَا، وَدُعَائِهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَغْنَى بَنِي هَاشِمٍ، وَمِنْ أَكْثَرِ الْمُشْرِكِينَ غُرُورًا بِمَالِهِ وَثَرْوَتِهِ وَنَشَبِهِ وَنَسَبِهِ وَكَانَ بِهَذَا الْغُرُورِ أَوَّلَ مَنْ جَاهَرَ بِعَدَاوَةِ ابْنِ أَخِيهِ (مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ) مُحْتَقِرًا لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ، الَّذِي لَمْ يُدْرِكْهُ، وَعَمُّهُ الَّذِي كَفَلَهُ بَعْدَ جَدِّهِ- أَفْقَرَ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَالَ لَهُ حِينَ جَمَعَ عَشِيرَتَهُ وَبَلَّغَهُمْ دَعْوَةَ رَبِّهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (26: 214): تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ وَكَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَشَدَّ الْمُشْرِكِينَ صَدًّا لِلنَّاسِ عَنْهُ وَتَكْذِيبًا لَهُ كُلَّمَا دَعَا أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ كَلَامُهُ مَقْبُولًا عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ كَلَامِ سَائِرِ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ جَاهَرُوا بِعَدَاوَتِهِ كَأَبِي جَهْلٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ لِقَرَابَتِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ جَمِيلٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ مُسْرِفَةً فِي عَدَاوَتِهِ وَذَمِّهِ، وَالصَّدِّ عَنْ دَعْوَتِهِ بِالنَّمِيمَةِ وَنَقْلِ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ عَنْهُ لِتَبْغِيضِهِ لِلنَّاسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ كُنْيَتِهَا: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَجْمَعُ الْحَطَبَ الشَّائِكَ وَتُلْقِيهِ فِي طَرِيقِهِ بِالْفِعْلِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ تَكُنِ السُّورَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهِ إِلَّا دُعَاءً عَلَيْهِ بِالتَّبَّاتِ، وَهُوَ الْخَسَارُ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ أَوْ إِخْبَارًا بِهِ، وَبِكَوْنِهِ لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الْكَثِيرُ وَمَا كَسَبَهُ مِنَ الْجَاهِ وَالْوَلَدِ شَيْئًا- فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ- فَهُوَ إِخْبَارٌ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمَا وَمَوْتِهِمَا عَلَى كُفْرِهِمَا، وَخُسْرَانِهِمَا سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ صَدَقَ خَبَرُ اللهِ وَوَعِيدُهُ لَهُ، فَهُوَ قَدْ مَاتَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ الَّتِي سَاعَدَ عَلَيْهَا بِمَالِهِ، آسِفًا لِعَجْزِهِ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا بِنَفْسِهِ، فَذَاقَ وَبَالَ أَمْرِهِ بِخِذْلَانِ أَقْرَانِهِ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَرُءُوسِ الشِّرْكِ، وَخُسْرَانِ مَالِهِ الَّذِي أَنْفَقَهُ فِيهَا مِصْدَاقًا لِقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} (8: 36) وَرَأَى بِمِصْدَاقِهَا مَبَادِئَ عِزِّ الْإِسْلَامِ وَنَصْرِهِ. مَاتَ بَعْدَهَا بِأَيَّامٍ قَلِيلَةٍ بِالْعَدَسَةِ شَرَّ مَيْتَةٍ، وَتُرِكَ مَيِّتًا حَتَّى أَنْتَنَ، ثُمَّ اسْتُؤْجِرَ بَعْضُ السُّودَانِ حَتَّى دَفَنُوهُ. وَكَانَ فُجِعَ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ بِوَلَدِهِ عُتْبَةَ الَّذِي كَانَ يَعْتَزُّ بِهِ، افْتَرَسَهُ أَسَدٌ فِي طَرِيقِ الشَّامِ، وَلَوْ أَسْلَمَ كَمَا أَسْلَمَ أَخُوهُ وَثَانِيهِ فِي جَمْعِ الْمَالِ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه لَرَأَى مِثْلَ مَا رَأَى هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ عِزِّ الْإِسْلَامِ، وَصِدْقِ ابْنِ أَخِيهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فِي وَعْدِهِ لَهُمْ بِأَنَّ كَلِمَةَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) تَجْمَعُ عَلَيْهِمُ الْعَرَبَ، وَتَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَجَمُ.
ذَكَرْتُ هَذَا التَّنْبِيهَ الطَّوِيلَ لِبَيَانِ غَلَطِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ اشْتَمَلَ عَلَى سَبِّهِمْ وَسَبِّ آلِهَتِهِمْ، وَتَفْنِيدًا لِمَا يَهْذِي بِهِ بَعْضُ مَلَاحِدَةِ الْكُتَّابِ فِي الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ أَدَبِهِ وَالْأَدَبِ الْجَاهِلِيِّ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ سَبَبْتَ الْآبَاءَ وَعِبْتَ الدِّينَ وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ، فَذِكْرُ السَّبِّ وَالشَّتْمِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْكَارِ، عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ ضَعِيفُ السَّنَدِ وَفِيهِ رَجُلٌ مُتَّهَمٌ. وَهَاكَ مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَعْدَاءَهُ وَأَعْدَاءَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ أَشَدُّهُ.